فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْحَجْرِ:

وَالْحَبْسِ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَصْلَانِ: فَصْلٌ فِي الْحَجْرِ، وَفَصْلٌ فِي الْحَبْسِ، أَمَّا الْحَجْرُ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ أَسْبَابِ الْحَجْرِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ حُكْمِ الْحَجْرِ، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ مَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ مَا لَهَا رَابِعٌ: الْجُنُونُ، وَالصِّبَا، وَالرِّقُّ، وَهُوَ قَوْلُ: زُفَرَ، وَقَالَ: أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَالسَّفَهُ، وَالتَّبْذِيرُ، وَمَطْلُ الْغَنِيِّ، وَرُكُوبُ الدَّيْنِ، وَخَوْفُ ضَيَاعِ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ، وَالتَّلْجِئَةُ.
وَالْإِقْرَارُ لِغَيْرِ الْغُرَمَاءِ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ أَيْضًا فَيَجْرِي عِنْدَهُمْ فِي السَّفِيهِ الْمُفْسِدِ لِلْمَالِ بِالصَّرْفِ إلَى الْوُجُوهِ الْبَاطِلَةِ، وَفِي الْمُبَذِّرِ الَّذِي يُسْرِفُ فِي النَّفَقَةِ، وَيَغْبِنُ فِي التِّجَارَاتِ، وَفِيمَنْ يَمْتَنِعُ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ عِنْدَ الْقَاضِي، وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ عَلَيْهِ مَالَهُ، وَيَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ وَفِيمَنْ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ وَلَهُ مَالٌ فَخَافَ الْغُرَمَاءُ ضَيَاعَ أَمْوَالِهِ بِالتِّجَارَةِ فَرَفَعُوا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ، أَوْ خَافُوا أَنْ يُلْجِئَ أَمْوَالَهُ فَطَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَهُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا لِلْغُرَمَاءِ فَيَجْرِي الْحَجْرُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَهُ لَا يَجْرِي وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُجْرِي الْحَجْرَ إلَّا عَلَى ثَلَاثَةٍ: الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَقِيقَةَ الْحَجْرِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفْتِيَ لَوْ أَفْتَى بَعْدَ الْحَجْرِ، وَأَصَابَ فِي الْفَتْوَى جَازَ، وَلَوْ أَفْتَى قَبْلَ الْحَجْرِ وَأَخْطَأَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا الطَّبِيبُ لَوْ بَاعَ الْأَدْوِيَةَ بَعْدَ الْحَجْرِ نَفَذَ بَيْعُهُ فَدَلَّ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الْحَجْرَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَنْعَ الْحِسِّيَّ أَيْ: يُمْنَعُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عَنْ عَمَلِهِمْ حِسًّا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ الْمَاجِنَ يُفْسِدُ أَدْيَانَ الْمُسْلِمِينَ، وَالطَّبِيبَ الْجَاهِلَ يُفْسِدُ أَبْدَانَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسَ يُفْسِدُ أَمْوَالَ النَّاسِ فِي الْمَفَازَةِ، فَكَانَ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، لَا مِنْ بَابِ الْحَجْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّنَاقُضُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ وَلَوْ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى السَّفِيهِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَنْفُذْ حَجْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ بَعْدَ الْحَجْرِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَجْرُ هاهنا مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ الْقَاضِي قَضَاءٌ مِنْهُ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ إنَّمَا يَنْفُذُ، وَيَصِيرُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ نَفْسُ الْقَضَاءِ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ فَلَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ الَّتِي لَا يَرْجِعُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي وَاخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي السَّفِيهِ أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِنَفْسِ السَّفَهِ أَمْ يَقِفُ الِانْحِجَارُ عَلَى حَجْرِ الْقَاضِي قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا إلَّا بِحَجْرِ الْقَاضِي، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْحَجِرُ بِنَفْسِ السَّفَهِ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى حَجْرِ الْقَاضِي، وَحُجَّةُ الْعَامَّةِ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ وَلِيًّا، مِنْهُمْ السَّفِيهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا وَلِيَّ لِلسَّفِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ وَلِيٌّ دَلَّ أَنَّهُ مُوَلَّى عَلَيْهِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} نَهَى عَنْ إعْطَاءِ الْأَمْوَالِ السُّفَهَاءَ، وَعِنْدَهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَاعَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ بِسَبَبِ دُيُونٍ رَكِبَتْهُ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَيْهِ لَا يُذْكَرُ إلَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرِّضَا؛ وَلِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ.
وَالْمَصْلَحَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْإِطْلَاقِ مَرَّةً وَبِالْحَجْرِ أُخْرَى، وَالْمَصْلَحَةُ هَاهُنَا؛ فِي الْحَجْرِ وَلِهَذَا إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِلَا خِلَافٍ، وَلِهَذَا حُجِرَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ لِكَوْنِ الْحَجْرِ مَصْلَحَةً فِي حَقِّهِمَا، كَذَا هاهنا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عُمُومَاتُ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالْإِقْرَارِ، وَالظِّهَارِ، وَالْيَمِينِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلَى قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} أَجَازَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَدَلَيْنِ حَيْثُ نَدَبَ إلَى الْكِتَابَةِ وَأَثْبَتَ الْحَقَّ حَيْثُ أَمَرَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْإِمْلَاءِ، وَنَهَى عَنْ الْبَخْسِ عَامًّا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
وَبَيْعُ مَالِ الْمَدْيُونِ عَلَيْهِ تِجَارَةً لَا عَنْ تَرَاضٍ فَلَا يَجُوزُ وَبَيْعُ السَّفِيهِ مَالَهُ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ فَيَجُوزُ وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} عَامًّا وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارٌ وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَآيَةِ الظِّهَارِ وَآيَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عَامًّا وَالْحَجْرُ عَنْ الْمَشْرُوعِ مُتَنَاقِضٌ، وَكَذَا نَصُّ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ يَقْتَضِيَانِ وُجُوبَ التَّحْرِيرِ عَلَى الْمُظَاهِرِ وَالْحَالِفِ الْحَانِثِ وَجَوَازَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عَامًّا.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ التَّحْرِيرُ عَلَى السَّفِيهِ وَلَوْ حَرَّرَ لَا يَجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ فَيَكُونُ إعْتَاقًا بِعِوَضٍ، فَلَا يَقَعُ التَّحْرِيرُ تَكْفِيرًا فَكَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمَا، وَلِأَنَّ بَيْعَ السَّفِيهِ مَالَ نَفْسِهِ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ بِرُكْنِهِ فِي مَحِلٍّ هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ فَيَنْفُذُ كَتَصَرُّفِ الرَّشِيدِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُودَ التَّصَرُّفِ حَقِيقَةً بِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَوُجُودَهُ شَرْعًا بِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَحُلُولِهِ فِي مَحِلِّهِ وَقَدْ وُجِدَ، وَبَيْعُ مَالِ الْمَدْيُونِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَالِكِ وَأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ كَالْفُضُولِيِّ.
(وَأَمَّا) الْآيَةُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: السَّفِيهُ هُوَ الصَّغِيرُ وَبِهِ نَقُولُ وَقِيلَ: إنَّ الْوَلِيَّ هاهنا هُوَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ يُمْلِي بِالْعَدْلِ عِنْدَ حَضْرَةَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِئَلَّا يَزِيدَ عَلَى مَا عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَوْ زَادَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ الْمُرَادُ مِنْ السُّفَهَاءِ النَّسَاءُ، وَالْأَوْلَادُ الصِّغَارُ يُؤَيِّدُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} وَرِزْقُ النَّسَاءِ وَالْأَوْلَادِ الصِّغَارِ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَزْوَاجِ لَا رِزْقُ السَّفِيهِ وَكِسْوَتُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ عَلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنْ لَا تُؤْتُوهُمْ مَالَ أَنْفُسِكُمْ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَ الْأَمْوَالَ إلَى الْمُعْطِي لَا إلَى الْمُعْطَى لَهُ وَبِهِ نَقُولُ.
(وَأَمَّا) بَيْعُ مَالِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ كَانَ بِرِضَاهُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَكْرَهُ بَيْعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَمْتَنِعُ بِنَفْسِهِ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ لِيَنَالَ بَرَكَتَهُ فَيَصِيرُ دَيْنُهُ مَقْضِيًّا بِبَرَكَتِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ أَبُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ دُيُونًا فَطَلَبَ جَابِرٌ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَبِيعَ أَمْوَالَهُ لِيَنَالَ بَرَكَتَهُ فَيَصِيرُ دَيْنُهُ بِذَلِكَ مَقْضِيًّا» وَكَانَ كَمَا ظَنَّ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَنْعِ الْمَالِ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ، وَالْحَجْرُ تَصَرُّفٌ عَلَى النَّفْسِ وَالنَّفْسُ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ الْمَالِ، فَثُبُوتُ أَدْنَى الْوِلَايَتَيْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ أَعْلَاهُمَا، ثُمَّ نَقُولُ إنَّمَا يُمْنَعُ عَنْ مَالِهِ نَظَرًا لَهُ تَقْلِيلًا لِلسَّفَهِ لِمَا أَنَّ السَّفَهَ غَالِبًا يَجْرِي فِي الْهِبَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ، فَإِذَا مُنِعَ مِنْهُ مَالُهُ يَنْسَدُّ بَابُ السَّفَهِ فَيَقِلُّ السَّفَهُ.
(فَأَمَّا) الْمُعَاوَضَاتُ فَلَا يَغْلِبُ فِيهَا السَّفَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْحَجْرِ لِتَقْلِيلِ السَّفَهِ، وَأَنَّهُ يَقِلُّ بِدُونِهِ فَيَتَمَحَّضُ الْحَجْرُ ضَرَرًا بِإِبْطَالِ أَهْلِيَّتِهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ فَلَمْ يَتَضَمَّنْ الْحَجْرُ إبْطَالَ الْأَهْلِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الْحَجْرِ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْحَجْرِ فَحُكْمُهُ يَظْهَرُ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ، وَفِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ.
(أَمَّا) حُكْمُ الْمَالِ فَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ مَادَامَ مَجْنُونًا، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَالِ فِي يَدِ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ إتْلَافُ الْمَالِ.
(وَأَمَّا) الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَيُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ إلَى أَنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ وَلَا بَأْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ، وَيَأْذَنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ لِلِاخْتِبَارِ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أَذِنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْأَوْلِيَاءِ فِي ابْتِلَاءِ الْيَتَامَى، وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ، وَذَلِكَ بِالتِّجَارَةِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِالِابْتِلَاءِ إذْنًا بِالتِّجَارَةِ، وَإِذَا اخْتَبَرَهُ فَإِنْ آنَسَ مِنْهُ رُشْدًا دَفَعَ الْبَاقِيَ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وَالرُّشْدُ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ وَالِاهْتِدَاءُ فِي حِفْظِ الْمَالِ وَإِصْلَاحِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ مَالُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ إلَيْهِ، وَأَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالتِّجَارَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَأْنَسْ مِنْهُ رُشْدًا مَنَعَهُ مِنْهُ إلَى أَنْ يَبْلُغَ، فَإِنْ بَلَغَ رَشِيدًا دَفَعَ إلَيْهِ، وَإِنْ بَلَغَ سَفِيهًا مُفْسِدًا مُبَذِّرًا فَإِنَّهُ يَمْنَعُ عَنْهُ مَالَهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِذَا بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ وَلَمْ يُؤْنِسْ رُشْدَهُ دَفَعَ إلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ مَا دَامَ سَفِيهًا.
(وَأَمَّا) الرَّقِيقُ فَلَا مَالَ لَهُ يُمْنَعُ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ الْحَجْرِ فِي حَقِّهِ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، هَذَا حُكْمُ الْحَجْرِ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ.
(وَأَمَّا) حُكْمُهُ فِي تَصَرُّفِهِ فَالتَّصَرُّفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَقْوَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَفْعَالِ.
(أَمَّا) التَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: نَافِعٍ مَحْضٍ، وَضَارٍّ مَحْضٍ وَدَائِرٍ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ.
(أَمَّا) الْمَجْنُونُ فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ التَّصَرُّفَاتُ الْقَوْلِيَّةُ كُلُّهَا فَلَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَعِتَاقُهُ وَكِتَابَتُهُ وَإِقْرَارُهُ، وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ حَتَّى لَا تَلْحَقَهُ الْإِجَازَةُ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَكَذَا الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ وَانْعِقَادِهِ وَلَا أَهْلِيَّةَ بِدُونِ الْعَقْلِ.
(وَأَمَّا) الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَتَصِحُّ مِنْهُ التَّصَرُّفَاتُ النَّافِعَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا تَصِحُّ مِنْهُ التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ الْمَحْضَةُ بِالْإِجْمَاعِ.
(وَأَمَّا) الدَّائِرَةُ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَيَنْعَقِدُ عِنْدَنَا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ فَإِنْ أَجَازَ جَازَ، وَإِنْ رَدَّ بَطَلَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَنْعَقِدُ أَصْلًا وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَقَدْ مَرَّتْ فِي مَوْضِعِهَا.
(وَأَمَّا) الرَّقِيقُ فَيَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَكَذَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَإِقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
(وَأَمَّا) إقْرَارُهُ بِالْمَالِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ، وَيَصِحُّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ.
(وَأَمَّا) الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ فَلَا يَنْفُذُ بَلْ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى، وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ذُكِرَتْ فِي مَوَاضِعِهَا.
(وَأَمَّا) التَّصَرُّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ وَهِيَ الْغُصُوبُ وَالْإِتْلَافَاتُ فَهَذِهِ الْعَوَارِضُ وَهِيَ: الصِّبَا، وَالْجُنُونُ، وَالرِّقُّ لَا تُوجِبُ الْحَجْرَ فِيهَا حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ شَيْئًا، فَضَمَانُهُ فِي مَالِهِمَا، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ لَكِنْ بَعْدَ الْعَتَاقِ.
(وَأَمَّا) السَّفِيهُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ أَصْلًا وَحَالُهُ وَحَالُ الرَّشِيدِ فِي التَّصَرُّفَاتِ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَإِذَا بَلَغَ رَشِيدًا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ.
(فَأَمَّا) فِي التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يَخْتَلِفَانِ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ بَعْدَ مَا بَلَغَ سَفِيهًا وَمُنِعَ عَنْهُ مَالُهُ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، كَمَا يَنْفُذُ بَعْدَ أَنْ دُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ عِنْدَهُ.
(وَأَمَّا) عِنْدَهُمَا فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْبَالِغِ الْمَعْتُوهِ سَوَاءٌ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ، وَشِرَاؤُهُ، وَإِجَارَتُهُ وَهِبَتُهُ، وَصَدَقَتُهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ.
(وَأَمَّا) فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ سَوَاءٌ، فَيَجُوزُ طَلَاقُهُ وَنِكَاحُهُ وَإِعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَاسْتِيلَادُهُ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ زَوْجَاتِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَالزَّكَاةُ فِي مَالِهِ، وَحِجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَاتِهِ، وَأَقَارِبِهِ، وَيُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَا مِنْ الْعُمْرَةِ، وَلَا مِنْ الْقَرَابِينِ، وَسُوقِ الْبَدَنَةِ لَكِنْ يُسَلِّمُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ وَالْكِرَاءَ وَالْهَدْيَ عَلَى يَدِ أَمِينٍ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ، وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَوَصِيِّهِمَا، وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَتَجُوزُ وَصَايَاهُ بِالْقُرْبِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مِنْ ثُلْثِ مَالِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مِنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الرَّشِيدِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ، وَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ يَعْتِقُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا يَخْتَلِفَانِ، وَلَوْ بَاعَ السَّفِيهُ أَوْ اشْتَرَى نَظَرَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ فَمَا كَانَ خَيْرًا أَجَازَ وَمَا كَانَ فِيهِ مَضَرَّةٌ رَدَّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ.
(أَمَّا) الصَّبِيُّ فَاَلَّذِي يَرْفَعُ الْحَجْرَ عَنْهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إذْنُ الْوَلِيِّ إيَّاهُ بِالتِّجَارَةِ، وَالثَّانِي: بُلُوغُهُ إلَّا أَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ يُزِيلُ الْحَجْرَ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ.
(وَأَمَّا) التَّصَرُّفَاتُ الضَّارَّةُ الْمَحْضَةُ فَلَا يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْهَا إلَّا بِالْبُلُوغِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْ الصَّبِيِّ إلَّا بِالْبُلُوغِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ ثَمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ بِالْبُلُوغِ سَوَاءٌ بَلَغَ رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَنْحَجِرُ بِحَجْرِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْحَجِرُ الصَّبِيُّ عَنْ التَّصَرُّفِ بِحَجْرِ الْقَاضِي لَكِنْ يَمْنَعُ مَالَهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ.
وَالشَّافِعِيِّ لَا يَزُولُ إلَّا بِبُلُوغِهِ رَشِيدًا، ثُمَّ الْبُلُوغُ فِي الْغُلَامِ يُعْرَفُ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ وَالْإِنْزَالِ، وَفِي الْجَارِيَةِ يُعْرَفُ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيُعْتَبَرُ بِالسِّنِّ.
(أَمَّا) مَعْرِفَةُ الْبُلُوغِ بِالِاحْتِلَامِ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا الصَّبِيُّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الِاحْتِلَامَ غَايَةً لِارْتِفَاعِ الْخِطَابِ، وَالْخِطَابُ بِالْبُلُوغِ دَلَّ أَنَّ الْبُلُوغَ يَثْبُتُ بِالِاحْتِلَامِ؛ وَلِأَنَّ الْبُلُوغَ وَالْإِدْرَاكَ عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْمَرْءِ كَمَالَ الْحَالِ وَذَلِكَ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، وَالْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ هِيَ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ السَّلِيمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ عَلَى الْكَمَالِ إلَّا عِنْدَ الِاحْتِلَامِ، فَإِنْ قِيلَ الْإِدْرَاكُ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ إنْ كَانَ ثَابِتًا، فَأَمَّا إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ الْآلَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ فَلَيْسَ بِثَابِتٍ؛ لِأَنَّ كَمَالَهَا بِالْإِنْزَالِ وَالِاحْتِلَامِ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَاءِ عَلَى الْأَغْلَبِ فَجُعِلَ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِابْتِغَاءِ الْوَلَدِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ لَهُ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وَالتَّكْلِيفُ بِابْتِغَاءِ الْوَلَدِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِي وَقْتٍ لَوْ ابْتَغَى الْوَلَدَ لَوُجِدَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي خُرُوجِ الْمَاءِ لِلشَّهْوَةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ بِالِاحْتِلَامِ فِي الْمُتَعَارَفِ، وَلِأَنَّ عِنْدَ الِاحْتِلَامِ يَخْرُجُ عَنْ حَيِّزِ الْأَوْلَادِ وَيَدْخُلُ فِي حَيِّزِ الْآبَاءِ حَتَّى يُسَمَّى أَبَا فُلَانٍ لَا وَلَدَ فُلَانٍ فِي الْمُتَعَارَفِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْعَلُوقِ فَكَانَ الِاحْتِلَامُ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبُلُوغَ يَثْبُتُ بِالِاحْتِلَامِ يَثْبُتُ بِالْإِنْزَالِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي يَتَعَلَّقُ بِالنُّزُولِ لَا بِنَفْسِ الِاحْتِلَامِ إلَّا أَنَّ الِاحْتِلَامَ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَاءِ عَادَةً فَعُلِّقَ الْحُكْمُ بِهِ، وَكَذَا الْإِحْبَالُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْإِنْزَالِ عَادَةً فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فَيُعْتَبَرُ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَدْنَى السِّنِّ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْبُلُوغُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي الْغُلَامِ وَسَبْعَ عَشْرَةَ فِي الْجَارِيَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ جَمِيعًا وَجْهُ قَوْلِهِمْ: أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْعَقْلُ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ إذْ بِهِ قِوَامُ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا الِاحْتِلَامُ جُعِلَ حَدًّا فِي الشَّرْعِ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ الْعَقْلِ، وَالِاحْتِلَامُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً عَادَةً فَإِذَا لَمْ يَحْتَلِمْ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لِآفَةٍ فِي خِلْقَتِهِ، وَالْآفَةُ فِي الْخِلْقَةِ لَا تُوجِبُ آفَةً فِي الْعَقْلِ فَكَانَ الْعَقْلُ قَائِمًا بِلَا آفَةٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي لُزُومِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ «عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامٌ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّهُ وَعُرِضَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَهُ» فَقَدْ جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَمْسَ عَشْرَةَ حَدًّا لِلْبُلُوغِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عَلَّقَ الْحُكْمَ وَالْخِطَابَ بِالِاحْتِلَامِ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَيَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ عَنْهُ مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِعَدَمِهِ، وَيَقَعُ الْيَأْسُ عَنْ وُجُودِهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْيَأْسُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِلَامَ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ مُتَصَوَّرٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا يَجُوزُ إزَالَةُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالِاحْتِلَامِ عَنْهُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، عَلَى هَذَا أُصُولُ الشَّرْعِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ لَمَّا كَانَ لَازِمًا فِي حَقِّ الْكَبِيرَةِ لَا يَزُولُ بِامْتِدَادِ الطُّهْرِ مَا لَمْ يُوجَدْ الْيَأْسُ، وَيَجِبُ الِانْتِظَارُ لِمُدَّةِ الْيَأْسِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الْحَيْضِ، وَكَذَا التَّفْرِيقُ فِي حَقِّ الْعِنِّينِ لَا يَثْبُتُ مَا دَامَ طَمَعُ الْوُصُولِ ثَابِتًا، بَلْ يُؤَجَّلُ سَنَةً لِاحْتِمَالِ الْوُصُولِ فِي فُصُولِ السَّنَةِ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ وَوَقَعَ الْيَأْسُ الْآنَ يُحْكَمُ بِالتَّفْرِيقِ، وَكَذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِظْهَارِ الْحُجَجِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ قَبُولِهِمْ، فَمَا لَمْ يَقَعْ الْيَأْسُ لَا يُبَاحُ لَنَا الْقِتَالُ، فَكَذَلِكَ هاهنا مَادَامَ الِاحْتِلَامُ يُرْجَى يَجِبُ الِانْتِظَارُ وَلَا يَأْسَ بَعْدَ مُدَّةِ خَمْسَ عَشْرَةَ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ، بَلْ هُوَ مَرْجُوٌّ فَلَا يُقْطَعُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالِاحْتِلَامِ عَنْهُ مَعَ رَجَاءِ وُجُودِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ وُجُودُهُ بَعْدَهَا فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ فِي زَمَانِ الْيَأْسِ عَنْ وُجُودِهِ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ لَمَّا عَلِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ احْتَلَمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ لَمَّا رَآهُ صَالِحًا لِلْحَرْبِ مُحْتَمِلًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِيَادِ لِلْجِهَادِ، كَمَا أَمَرَنَا بِاعْتِبَارِ سَائِرِ الْقُرَبِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَالِاحْتِمَالِ لَهَا، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَإِذَا أَشْكَلَ أَمْرُ الْغُلَامِ الْمُرَاهِقِ فِي الْبُلُوغِ فَقَالَ: قَدْ بَلَغْتُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ الْمُرَاهِقَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبُلُوغِ هُوَ الِاحْتِلَامُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَأَلْزَمَتْ الضَّرُورَةُ قَبُولَ قَوْلِهِ، كَمَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْمَجْنُونُ فَلَا يَزُولُ الْحَجْرُ عَنْهُ إلَّا بِالْإِفَاقَةِ فَإِذَا أَفَاقَ رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا فَحُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الصَّبِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
(وَأَمَّا) الرَّقِيقُ فَالْحَجْرُ يَزُولُ عَنْهُ بِالْإِعْتَاقِ مَرَّةً وَبِالْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ أُخْرَى إلَّا أَنَّ الْإِعْتَاقَ يُزِيلُ الْحَجْرَ عَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْإِذْنُ بِالتِّجَارَةِ لَا يُزِيلُ إلَّا فِي التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ.
(وَأَمَّا) السَّفِيهُ فَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الزَّوَالُ.
(وَأَمَّا) عَلَى مَذْهَبِهِمْ فَزَوَالُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِضِدِّهِ وَهُوَ الْإِطْلَاقُ مِنْ الْقَاضِي فَكَمَا لَا يَنْحَجِرُ إلَّا بِحَجْرِهِ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا بِإِطْلَاقِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ زَوَالُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بِظُهُورِ رُشْدِهِ؛ لِأَنَّ الْحِجَارَةَ كَانَ بِسَفَهِهِ، فَانْطِلَاقُهُ يَكُونُ بِضِدِّهِ وَهُوَ رُشْدُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ فَصْلُ الْحَبْسِ فَالْحَبْسُ عَلَى نَوْعَيْنِ: حَبْسُ الْمَدْيُونِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَحَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْحَبْسِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُمْنَعُ، عَنْهُ الْمَحْبُوسُ وَمَا لَا يُمْنَعُ أَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ الْحَبْسِ فَهُوَ الدَّيْنُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ.
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَدْيُونِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ.
(أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فَلَا يُحْبَسُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ الْمُتَحَقِّقِ بِتَأْخِيرِ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَدْيُونِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ هُوَ الَّذِي أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالتَّأْجِيلِ؛ وَكَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ السَّفَرِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ سَوَاءٌ بَعُدَ مَحِلُّهُ أَوْ قَرُبَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ، وَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ حَتَّى إذَا حَلَّ الْأَجَلُ مَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ فِي سَفَرِهِ إلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ دَيْنَهُ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَدْيُونِ فَمِنْهَا الْقُدْرَةُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يُحْبَسُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ}، وَلِأَنَّ الْحَبْسَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ بِإِيصَالِ حَقِّهِ إلَيْهِ وَلَوْ ظُلِمَ فِيهِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يَكُونُ الْحَبْسُ مُفِيدًا؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ شُرِعَ لِلتَّوَسُّلِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا لِعَيْنِهِ، وَمِنْهَا الْمَطْلُ وَهُوَ تَأْخِيرُ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ فَيُحْبَسُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِوَاسِطَةِ الْحَبْسِ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» وَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الْمَطْلُ لَا يُحْبَسُ لِانْعِدَامِ الْمَطْلِ وَاللَّيُّ مِنْهُ وَمِنْهَا، أَنْ يَكُونَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِمَّنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ فَلَا يُحْبَسُ الْوَالِدُونَ وَإِنْ عَلَوْا بِدَيْنِ الْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وقَوْله تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا} وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ حَبْسُهُمَا بِالدَّيْنِ إلَّا أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ الْوَالِدُ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَحْبِسُهُ لَكِنْ تَعْزِيرًا لَا حَبْسًا بِالدَّيْنِ.
(وَأَمَّا) الْوَلَدُ فَيُحْبَسُ بِدَيْنِ الْوَالِدِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْحَبْسِ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَقَارِبِ يُحْبَسُ الْمَدْيُونُ بِدَيْنِ قَرِيبِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيَسْتَوِي فِي الْحَبْسِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَبْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَيُحْبَسُ وَلِيُّ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ قَضَاءُ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الظُّلْمُ بِسَبِيلٍ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ صَارَ بِالتَّأْخِيرِ ظَالِمًا فَيُحْبَسُ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ فَيَنْدَفِعُ الظُّلْمُ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ فَطَلَبُ الْحَبْسِ مِنْ الْقَاضِي فَمَا لَمْ يَطْلُبْ لَا يُحْبَسْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ، وَالْحَبْسُ وَسِيلَةٌ إلَى حَقِّهِ، وَوَسِيلَةُ حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ وَحَقُّ الْمَرْءِ إنَّمَا يُطْلَبُ بِطَلَبِهِ فلابد مِنْ الطَّلَبِ لِلْحَبْسِ، وَإِذَا عُرِفَ سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ وَشَرَائِطُهُ.
فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي السَّبَبُ مَعَ شَرَائِطِهِ بِالْحُجَّةِ حَبَسَهُ لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ عِنْدَهُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَالْقَاضِي نُصِّبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ فَيَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عَنْهُ، وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَى الْقَاضِي حَالُهُ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، وَلَمْ يَقُمْ عِنْدَهُ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدِهِمَا وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ حَبْسَهُ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ لِيَتَعَرَّفَ عَنْ حَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَمْ غَنِيٌّ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ حَبَسَهُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ فَيُطْلِقُهُ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ الْغُرَمَاءَ عَنْ مُلَازَمَتِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْإِنْظَارِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَالًا، إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُلَازِمُونَهُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} ذَكَرَ النَّظِرَةَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي.
(وَلَنَا) أَنَّ النَّظِرَةَ هِيَ التَّأْخِيرُ فلابد وَأَنْ يُؤَخَّرَ وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْقَاضِي أَوْ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَلَا مِنْ السَّفَرِ فَإِذَا اكْتَسَبَ يَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ فَيَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ، وَإِذَا مَضَى عَلَى حَبْسِهِ شَهْرٌ، أَوْ شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ وَلَمْ يَنْكَشِفْ حَالُهُ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ خَلَّى سَبِيلَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَبْسَ كَانَ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَإِبْلَاءِ عُذْرِهِ وَالثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرِ مُدَّةٌ صَالِحَةٌ لِاشْتِهَارِ الْحَالِ وَإِبْلَاءِ الْعُذْرِ فَيُطْلِقُهُ، لَكِنْ الْغُرَمَاءُ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ مُلَازَمَتِهِ فَيُلَازِمُونَهُ لَكِنْ لَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَقَالَ الطَّالِبُ: هُوَ مُوسِرٌ وَقَالَ الْمَطْلُوبُ: أَنَا مُعْسَرٌ فَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً وَهِيَ الْيَسَارُ.
وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْكَفَالَةِ، وَالنِّكَاحِ، وَالزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِمُعَاقَدَةٍ كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْكَفَالَةِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَالصُّلْحِ عَنْ الْمَالِ وَالْخُلْعِ، أَوْ ثَبَتَ تَبَعًا فِيمَا هُوَ مُعَاقَدَةٌ كَالنَّفَقَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ، وَكَذَا فِي الْغَصْبِ وَالزَّكَاةِ، وَإِنْ ثَبَتَ الدَّيْنُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ، أَوْ الْقَتْلِ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، وَيُوجِبُ الْمَالَ فِي مَالِ الْجَانِي، وَفِي الْخَطَأِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ إنْ وَجَبَ الدَّيْنُ عِوَضًا عَنْ مَالٍ سَالِمٍ لِلْمُشْتَرِي نَحْوَ ثَمَنِ الْمَبِيعِ الَّذِي سَلِمَ لَهُ الْبَيْعُ وَالْقَرْضُ وَالْغَصْبُ وَالسَّلَمُ الَّذِي أَخَذَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ، وَكُلُّ دَيْنٍ لَيْسَ لَهُ عِوَضٌ أَصْلًا كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ، أَوْ لَهُ عِوَضٌ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْكَفَالَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَا يُحْبَسُ؛ لِأَنَّ الْفَقْرَ أَصْلٌ فِي بَنِي آدَمَ، وَالْغِنَى عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمَطْلُوبِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُحَكَّمُ زِيُّهُ إذَا كَانَ زِيُّهُ زِيَّ الْأَغْنِيَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ وَإِنْ كَانَ زِيُّهُ زِيَّ الْفُقَرَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُحَكَّمُ زِيُّهُ فَيُؤْخَذُ بِحُكْمِهِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، إلَّا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، أَوْ الْعَلَوِيَّةِ، أَوْ الْأَشْرَافِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَاتِهِمْ التَّكَلُّفَ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّجَمُّلَ بِدُونِ الْغِنَى فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ أَنَّهُ مُعْسِرٌ (وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْقَوْلَ فِي الشَّرْعِ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، وَإِذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ سَلِمَ لَهُ، كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَتْ قُدْرَةُ الْمَطْلُوبِ بِسَلَامَةِ الْمَالِ، وَكَذَا فِي الزَّكَاةِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلطَّالِبِ فِيمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَهُوَ إقْدَامُهُ عَلَى الْمُعَاقَدَةِ، فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى التَّزَوُّجِ دَلِيلُ الْقُدْرَةِ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَزَوَّجُ حَتَّى يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ، وَلَا يَتَزَوَّجُ أَيْضًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْمَهْرِ، وَكَذَا الْإِقْدَامُ عَلَى الْخُلْعِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُخَالِعُ عَادَةً حَتَّى يَكُونَ عِنْدَهَا شَيْءٌ، وَكَذَا الصُّلْحُ لَا يُقْدِمُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ عَنْهُ وَمَا لَا يُمْنَعُ فَالْمَحْبُوسُ مَمْنُوعٌ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ، وَإِلَى الْجُمَعِ، وَالْجَمَاعَاتِ، وَالْأَعْيَادِ وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَالزِّيَارَةِ وَالضِّيَافَةِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتَّوَسُّلِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِذَا مُنِعَ عَنْ أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ تَضَجَّرَ فَيُسَارِعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ أَقَارِبِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِمَا وَضَعَ لَهُ الْحَبْسُ بَلْ قَدْ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَيْهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ: مِنْ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْغُرَمَاءِ حَتَّى لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَفَذَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَوْ طَلَبَ الْغُرَمَاءُ الَّذِينَ حُبِسَ لِأَجْلِهِمْ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمَحْبُوسِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا لَمْ يُجِبْهُمْ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدُهُمَا لَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَيْهِ.
وَكَذَا إذَا طَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي بَيْعَ مَالِهِ عَلَيْهِ مِمَّا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْعَقَارِ لَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَيْهِ عِنْدَهُمَا.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يُجِيبُهُمْ إلَى ذَلِكَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ، لَكِنْ إذَا كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِهَا دَيْنَهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَعِنْدَهُ دَنَانِيرُ بَاعَهَا الْقَاضِي بِالدَّرَاهِمِ وَقَضَى بِهَا دَيْنَهُ.
وَكَذَا إذَا كَانَ دَيْنُهُ دَنَانِيرَ وَعِنْدَهُ دَرَاهِمُ بَاعَهَا الْقَاضِي بِالدَّنَانِيرِ وَقَضَى بِهَا دَيْنَهُ، فَرْقٌ بَيْنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ أَنَّهُ يَبِيعُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَا يَبِيعُ سَائِرَ الْأَمْوَالِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ: أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَكْمُلُ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَالْمُؤَدَّى عَنْ أَحَدِهِمَا كَانَ مُؤَدًّى عَنْ الْآخَرِ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُجَانَسَةٌ مِنْ وَجْهٍ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَعَيْنِ الْآخَرِ حُكْمًا، وَلَيْسَ بَيْنَ الْعُرُوضِ وَبَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مُجَانَسَةٌ بِوَجْهٍ فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ عَلَى الْمَحْبُوسِ بِبَيْعِهِمَا بِهَا؛ وَلِأَنَّ الْعُرُوضَ إذَا بِيعَتْ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهَا لَا تُشْتَرَى مِثْلَ مَا تُشْتَرَى فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، بَلْ دُونَ ذَلِكَ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ، وَلَا ضَرَرَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهَا؛ لَا تَتَفَاوَتُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ جَمِيعَ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ؛ بَيْعَ الْقَاضِي لَيْسَ تَصَرُّفًا عَلَى الْمَيِّتِ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ فِي آخَرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدُّيُونِ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ تَخْلِيصًا لِنَفْسِهِ عَنْ عُهْدَةِ الدَّيْنِ عِنْدَمَا سَدَّهُ عَنْ حَيَاتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَيُنْفِقُ الْمَحْبُوسُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَأَقَارِبِهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ فَالْمَحْبُوسُ بِالدَّيْنِ فِي الْأَصْلِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَحْبُوسٌ هُوَ مَضْمُونٌ وَمَحْبُوسٌ هُوَ أَمَانَةٌ، وَالْمَضْمُونُ عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا مَضْمُونٍ بِالثَّمَنِ وَمَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ فَالْمَضْمُونُ بِالثَّمَنِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ سَقَطَ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَطَالَبَهُ الْبَائِعُ بِهِ فَيُطَالِبُهُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ بِإِزَاءِ تَمْلِيكٍ، وَتَسْلِيمٌ بِإِزَاءِ تَسْلِيمٍ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ لِهَلَاكِ الْمَبِيعِ فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ فَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ مُطَالَبَتَهُ بِالثَّمَنِ، فَيُسْقِطُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ، فَهَذَا أَوْلَى إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، وَهَذَا بِالثَّمَنِ لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ الصَّحِيحَةِ هَاهُنَا، وَانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ هُنَاكَ أَصْلًا.
وَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا أَدَّى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَحَبَسَ السِّلْعَةَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَهَلَكَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطَّلَبِ يَهْلِكُ أَمَانَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَهْلِكُ مَضْمُونًا، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الطَّلَبِ يَهْلِكُ مَضْمُونًا، لَكِنْ ضَمَانُ الْمَبِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ضَمَانُ الرَّهْنِ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَمَانُ الْغَصْبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَأَمَّا الْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ فَكَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ إذَا فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَحَبَسَهُ لِيَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ عَلَيْهِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، يَهْلِكُ بِقِيمَتِهِ وَيَتَقَاصَّانِ وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ، وَكَذَا الْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ عِنْدَنَا، لَكِنْ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ أَصْلًا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الرَّهْنِ وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ الَّذِي هُوَ أَمَانَةٌ فَنَحْوُ نَمَاءِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ لَكِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ، وَكَذَا الْمُسْتَأْجِرُ دَابَّةً إجَارَةً فَاسِدَةً إذَا كَانَ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ فَحَبَسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ حَتَّى هَلَكَتْ فِي يَدِهِ تَهْلِكُ أَمَانَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.